الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في أفعال العباد: هل هي قديمة، أم مخلوقة حين خلق الإنسان؟ وما الحجة على من يقول: إن سائر أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السموات والأرض؟ وفيمن لم يستثن في الأفعال الماضية، كقول القائل: هذه نخلة أو شجرة زيتون قطعًا، لم يقل شيء إلا ويسترجع فيه المشيئة، ويسأل البسط في ذلك. فأجاب ـ رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص علي ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله وبعده، حتي قال بعضهم: من قال: إن أفعال العباد غير مخلوقة، فهو بمنزلة من قال: إن السماء والأرض غير مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد العطار: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة. وكان السلف قد أظهروا ذلك لما أظهرت القدرية، أن أفعال العباد غير/ مخلوقة لله، وزعموا أن العبد يحدثها أو يخلقها دون الله، فبين السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها. ثم لما أظهر طائفة من المنتسبين إلى السنة، أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، وأنكر الإمام أحمد ذلك وبدع من قاله، ثم لما مات قام بعده صاحبه أبو بكر المروذي، فصنف في ذلك مصنفًا، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب [السنة] وذكر مسألة أبي طالب لما أنكر عليه أحمد القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق، والجهمية أول من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، ورواه عنه ابناه صالح وعبد الله، وحنبل ابن عمه، والمروزي وفوران وغيرهم من أجلاء أصحابه. وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال: إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفًا، كما أنهم بدعوا وجهموا من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، أو أن حروف القرآن مخلوقة. أو قالوا: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فرد الأئمة هذه البدعة كما ذكرنا ذلك مبسوطًا في غير هذا الموضع. ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين، أن أفعال العباد قديمة. وإنما رأيت هذا قولا لبعض المتأخرين بأرض العجم، وأرض مصر. من المنتسبين إلى مذهب الشافعي أو أحمد، فرأيت بعض المصريين يقولون: / إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات، ولكن مرادنا الثواب الذي يكون عليها، كما جاء في الحديث: (أن المؤمن يرى عمله في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح). واحتجوا على ذلك بأن الأفعال من القدر، والقدر سر الله وصفة من صفاته، وصفاته قديمة. واحتجوا بأن الشرائع غير مخلوقة؛ لأنها أمر الله وكلامه، والأفعال هي الشرائع، فتكون قديمة، وهذا قول في غاية الفساد، وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق. فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد. ولما احتج الجهمية على الإمام أحمد، وغيره من أهل السنة على أن القرآن مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، ويأتي القرآن في صورة الرجل الشاحب) ونحو ذلك قالوا: ومن يأتي ويذهب لا يكون إلا مخلوقًا، أجابهم الإمام أحمد بأن الله تعالى قد وصف نفسه بالمجىء والإتيان، بقوله: وقد ذكر هذا المعنى غير واحد، وبينوا أن المراد بقوله:)تجيء البقرة وآل عمران) أي ثوابهما، ليجيبوا الجهمية الذين احتجوا بمجيء القرآن وإتيانه على أنه مخلوق، فلو كان الثواب أيضًا الذي يجيء في صورة غمامة أو صورة شاب غير مخلوق، لم يكن فرق بين القرآن والثواب، ولا كان حاجة إلى أن يقولوا: يجيء ثوابه، ولا كان جوابهم للجهمية صحيح، بل كانت الجهمية تقول: أنتم تقولون؛ إنه غير مخلوق، وأن ثوابه غير مخلوق، فلا ينفعكم هذا الجواب. فعلم أن أئمة السنة مع الجهمية كانوا متفقين على أن ثواب قراءة القرآن مخلوق، فكيف يكون ثواب سائر الأعمال، وهذا بين، فإن الثواب والعقاب هو ما وعد الله به عباده، وأوعدهم به فالثواب هو الجنة بما فيها، والعقاب هو النار بما فيها، والجنة بما فيها مخلوق والنار بما فيها مخلوق، وقد ذكر الإمام أحمد هذه الحجة، فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فقال: باب: ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت/ (أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول له: من أنت ؟ فيقول: أنا القرآن الذي أظمأت نهارك، وأسهرت ليلك، قال: فيأتي به الله؛ فيقول: يارب) فادعوا أن القرآن مخلوق، فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء بمعني أنه قد جاء: (من قرأ: فبين أحمد أن الثواب هو الذي يجيء، وهو المخلوق من العمل، فكيف بعقوبة الأعمال الذي تتغير من حال إلى حال، فإذا كان هذا ثواب وأما احتجاج المحتج، بأن الأفعال قدر الله فيقال له: لفظ القدر يراد به التقدير، ويراد به المقدر. فإن أردت أن أفعال العباد نفس تقدير الله الذي هو علمه وكلامه ومشيئته ونحو ذلك من صفاته، فهذا غلط وباطل، فإن أفعال العباد ليست شيئا من صفات الله ـ تعالى ـ وإن أردت أنها مقدرة قدرها الله تعالى، فهذا حق، فإنها مقدرة كما أن سائر المخلوقات مقدرة، وقد ثبت في الصحيح، أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل تلك المقدورات مخلوقة. /وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ: (أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح). فالرزق والأجل قدره كما قدر عمله، ومعلوم أن الرزق الذي يأكله مخلوق مع أنه مقدر. فكذلك عمله، وكذلك سعادته وشقاؤه، وسعادته وشقاؤه هي ثواب العمل وعقابه، وكل ذلك مقدر، كما أن الرزق مقدر، والمقدر مخلوق. وأما قولهم: إن الأعمال هي الشرائع، والشرائع غير مخلوقة، فيقال لهم أيضًا: لفظ الشرع يراد به كلام الله الذي شرع به الدين، ويراد به الأعمال المشروعة، فإن هذه الألفاظ يراد بها المصدر، ويراد بها المفعول، كلفظ الخلق ونحوه. فإن قلتم: إن أعمال العباد هي الشرع الذي هو كلام الله، فهذا باطل ظاهر البطلان. وإن أردتم أن الأعمال هي المشروعة بأمر الله بها فهذا حق، لكن أمر الله غير مخلوق، وأما المأمور به المكون بأمر الله أو الممتثل بأمر الله، فإنه مخلوق، كما أن العبد المأمور مخلوق. /ولفظ الأمر يراد به المصدر، والمفعول، فالمفعول مخلوق، كما قال: الجهمية الذين يقولون: كلام الله مخلوق، ويحتجون بقوله: ومثار الشبهة أن اسم القدر، والأمر، والشرع، يراد به المصدر ويراد به المفعول ففي قوله: فإذا احتج الجهمي الذي يؤول أمره إلى أن يجعله حالاً في المخلوقات بقوله: ثم يقال لهؤلاء الضالين: هب أن المأمور به يسمى أمرًا وشرعًا، فالمنهي عنه ليس هو مأمورًا به ولا مشروعًا، وإنما هو مخالفة للأمر والشرع، وهو منهي عنه، فكيف سميتم الكفر، والفسوق، والعصيان شرائع، وليست من الشرائع؟! ولكن هي مما نهت عنه الشريعة، ولما قال سبحانه: وأما قول السائل: ما الحجة على من يقول: إن أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السماوات والأرض ؟ فيقال له: من قال هذا القول فقد أحسن وأصاب وليس عليه حجة، بل هذا الكلام حجة على نقيض مطلوبه، فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) فقدر أعمالهم وأرزاقهم وصورهم وألوانهم، وكل ذلك مخلوق، فدل ذلك على أن الأعمال من المقدورات المخلوقة، وهل يقول عاقل: إن عمل العبد كان موجودًا /قبل وجوده، وعمل العبد حركته التي نشأت عنه، فكيف يكون ذلك موجودًا قبله. ومن فسر كلامه وقال: إنا لم نرد الحركة، ولكن أردنا ثوابها، فيقال له: كل ما سوى الله فهو مخلوق، وكلامه وصفاته ليست خارجة عن مسماه، بل كلامه داخل في مسمى اسمه، ولو قال قائل: ما سوى الله وصفاته فهو مخلوق، ليزيل هذه الشبهة، كان قد قصد معنى صحيحًا، وكذلك إذ قال ـ كما قال من قال من السلف ـ: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهؤلاء استثنوا القرآن لئلا يتوهم المستمع أن القرآن المنزل مخلوق. فإن الجهمية كانوا يقولون للناس: القرآن هو الله أو غير الله، فيجيبهم من لا يفهم مقصودهم بأنه غير الله، فيقولون: كل ما سوى الله مخلوق، فقال من قال من السلف هذه العبارة؛ لئلا يظن من لم يعرف مقاصد الجهمية أن القرآن مخلوق؛ لظنه أن ذلك يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إن ذلك لا يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إلا القرآن فإنه ليس بمخلوق، وإن أدخله من أدخله في قول القائل وما سوى الله مخلوق، فلما كان لفظ الغير والسوي فيهما اشتراك، فصفة الشيء تدخل تارة في لفظ الغير والسوي، وتارة لا تدخل، والمخاطب ممن يفهم دخول القرآن في لفظ السوي، استثناه السلف. /فأما أفعال العباد، فلم يستثنها أحد من عموم المخلوقات، إلا القدرية الذين يقولون: إن الله لم يخلقها ـ من المعتزلة ونحوهم. لكن هؤلاء يقولون: إنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن، إلا هؤلاء الحلولية، وما علمت أحدًا من المتقدمين قال: إن أفعال العباد من الخير أو الشر قديمة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة إلا عن بعض متأخري المصريين، وبلغني نحو ذلك عن بعض متأخري الأعاجم ورأيت بعض شيوخ هؤلاء من الشاميين توقفوا عنها، فقالوا: نقول: هي مقضية مقدرة، ولا نقول: مخلوقة ولا غير مخلوقة، وبعض الناس فرق بأن أفعال الخير من الإيمان، وكلام السلف في الإيمان مذكور في غير هذا الموضع. وهذه الأقوال الثلاثة، بقدمها أو قدم أفعال الخير، والتوقف في ذلك أقوال فاسدة باطلة لم يقلها أحد من الأئمة المشهورين، ولا يقولها من يتصور ما يقول، وإنما أوقع هؤلاء فيها ما ظنوه في مسألة اللفظ بالقرآن، ومسألة التلاوة والمتلو، ومسألة الإيمان. وقد أوضحنا مذاهب الناس في مسألة القرآن، وبينا القول الحق والوسط الذي كان عليه السلف، والأئمة الموافق للمنقول والمعقول، وبينا انحراف المنحرفين من المثبتة والنفاة في غير هذا الموضع. /وقد آل الأمر بطائفة ممن يجعلون بعض صفات العبد قديمًا، إلى أن جعلوا الروح التي فيه قديمة، وقالوا: بقدم النور القائم بالشمس والقمر، ونحو ذلك من المقالات، التي بينا فسادها ومخالفتها للسلف والأئمة في غير هذا الموضع. وهؤلاء يشتركون في القول بحلول بعض صفات الخالق في المخلوق، وأما الجهمية الذين هم شر من هؤلاء، فيؤول الأمر بهم إلى أن يجعلوا الخالق نفسه يحل في المخلوقات كلها، أو يجعلونه عين وجود المخلوقات، وكان قد اجتمع شيخ هؤلاء الحلولية الجهمية بشيوخ أولئك الحلولية الصفاتية. وبسبب هذه البدع وأمثالها، وغيرها من مخالفة الشريعة جرى ما جرى من المصائب على الأئمة. والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا القول بالحلول وشبهوا هؤلاء بالنصارى، وقال ـ فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية قال ـ: فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان له خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم/ نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه ؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة ؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حسًا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسًا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة، مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى ابن مريم هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء، وينهي عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ قال: نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًا أو مجسًا ؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا ترى له وجهًا ولا تسمع له صوتًا، ولا تشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، وتكلم في الرد عليهم إلى أن قال: ثم إن الجهم ادعى أمرًا آخر فقال: إنا وجدنا آية من كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ فقال: قول الله: ولكن المعنى في قول الله جل ثناؤه: وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله، وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة. وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله. كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب. وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان. وليس عيسى هو الكلمة. وأما قول الله وروح منه. يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: وبين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، فضلاً عن أعمالهم فقال: /بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى، فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئًا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين. فقلنا: فهل يجوز لمكون غير الله، أن يقول: يا موسى، أنا ربك أو يقول: فأما ما قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان). وبسط الكلام عليهم إلى أن قال: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين/ زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة. بل نقول: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق، وذكر تمام كلامه. فقد بين أن كلام الآدميين مخلوق خلقه الله، وذلك أبلغ من نصه على أن أفعال العباد مخلوقة، مع نصه على الأمرين. وقال: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟! فيقول: نعم، فقل له: حين خلق خلقه، خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحدة منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضًا كفرًا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر ردىء. وإن قال: خلقهم خارجَا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة. فقد بين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، ونص في غير موضع على أن أفعالهم مخلوقة، والنص على كلامهم أبلغ، فإن الشبه فيه أظهر. فمن قال: إن/ كلام الآدميين، أو أفعالهم قديمة، فهو مبتدع مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
وأما الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قوله: هذه شجرة إن شاء الله، أو هذا إنسان إن شاء الله، أو السماء فوقنا إن شاء الله، أو لا إله إلا الله إن شاء الله، أو محمد رسول الله إن شاء الله، أو الامتناع من أن يقول: محمد رسول الله قطعًا، وأن يقول: هذه شجرة قطعًا. فهذه بدعة مخالفة للعقل والدين. ولم يبلغنا عن أحد من أهل الإسلام إلا عن طائفة من المنتسبين إلى الشيخ أبي عمرو ابن مرزوق ولم يكن الشيخ يقول بذلك ولا عقلاء أصحابه. ولكن حدثني بعض الخبيرين أنه بعد موته تنازع صاحبان له: حازم وعبد الملك، فابتدع حازم هذه البدعة في الاستثناء في الأمور الماضية المقطوع بها، وترك القطع بذلك، وخالفه عبد الملك في ذلك موافقة لجماعة المسلمين وأئمة الدين. وأما الشيخ أبو عمرو، فكان أعقل من أن يدخل في مثل هذا/ الهذيان، فإنه كان له علم ودين، وإن كان ما تقدم من مسألة قدم أفعال العباد من خير وشر يعزى إليه. وقد أراني بعضهم خطه بذلك. فقد قيل: إنه رجع عن ذلك، وكان يسلك طريقة الشيخ أبي الفرج المقدسي الشيرازي، ونقل عنه أنه كان يقف ويقول: هي مقضية مقدرة. وأمسك. والشيخ أبو الفرج كان أحد أصحاب القاضي أبي يعلي، ولكن القاضي أبو يعلي لا يرضى بمثل هذه المقالات، بل هو ممن يجزم بأن أفعال العباد مخلوقة، ولو سمع أحدًا يتوقف في الكفر والفسوق والعصيان أنه مخلوق ـ فضلا عن أن يقول: إن أفعال العبد من خير وشر قديمة ـ لأنكرعليه أعظم الإنكار. وإن كان في كلام القاضي مواضع اضطرب فيها كلامه وتناقص فيها وذكر في موضع كلامًا بني عليه من وافقه فيه من أبنية فاسدة، فالعالم قد يتكلم بالكلمة التي يزل فيها فيفرع أتباعه عليها فروعًا كثيرة، كما جرى في مسألة اللفظ وكلام الأدميين ومسألة الإيمان وأفعال العباد. فإن السلف والأئمة ـ الإمام أحمد وغيره ـ لم يقل أحد منهم أن كلام الآدميين غير مخلوق ولا قالوا: إنه قديم ولا أن أفعال العباد غير مخلوقة، ولا أنها قديمة. ولا قالوا أيضًا: إن الإيمان قديم ولا إنه غير مخلوق. ولا قالوا: إن لفظ العباد بالقرآن مخلوق، ولا إنه غير مخلوق ولكن منعوا من إطلاق/ القول بأن الإيمان مخلوق، وأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لما يدخل في ذلك من صفات الله تعالى، ولما يفهمه هذا اللفظ من أن نفس كلام الخالق مخلوق وأن نفس هذه الكلمة مخلوق، ومنعوا أن يقال: حروف الهجاء مخلوقة؛ لأن القائل هذه المقالات يلزمه أن لا يكون القرآن كلام الله، وأنه لم يكلم موسى. فجاء أقوام أطلقوا نقيض ذلك فقال بعضهم: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فبدع الإمام أحمد وغيره من الأئمة من قال ذلك. وكذلك أطلق بعضهم القول بأن الإيمان غير مخلوق. حتى صار يفهم من ذلك أن أفعال العباد التي هي إيمان غير مخلوقة، فجاء آخرون فزادوا على ذلك فقالوا كلام الآدميين مؤلف من الحروف التي هي غير مخلوقة. فيكون غير مخلوق. وقال آخرون: فأفعال العباد كلها غيرمخلوقة. والبدعة كلما فرع عليها وذكر لوازمها زادت قبحًا وشناعة، وأفضت بصاحبها إلى أن يخالف ما يعلم بالاضطرار من العقل والدين. وقد بسطنا الكلام في هذا، وبينا اضطراب الناس في هذا في مسألة القرآن وغيرها. وهذا كما أن أقوامًا ابتدعوا: أن حروف القرآن ليست من كلام الله، /وأن كلام الله إنما هو معني قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر، وهذا الكلام فاسد بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، فإن المعني الواحد لا يكون هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر، ولا يكون معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وهم يقولون: إذا عبر عن ذلك الكلام بالعربية صار قرآنا، وإذا عبر عنه بالعبرية صار توراة، وهذا غلط، فإن التوراة يعبر عنها بالعربية ومعانيها ليست هي معاني القرآن، والقرآن يعبر عنه بالعبرية وليست معانيه هي معاني التوراة. وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن اتبعه عليه، كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة. ومنهم من يمثل ذلك بأنه محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب في المصاحف، كما أن الله مكتوب في المصاحف، وهذا غلط في تحقيق مذهب ابن كلاب والأشعري فإن القرآن عندهم معنى عبارة عنه، والحقائق لها أربع مراتب: وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي. فليس العلم بالمعنى له المرتبة الثانية، وليس ثبوته في الكتاب كثبوت الأعيان في الكتاب. فزاد هؤلاء قول ابن كلاب والأشعري قبحًا. /تم تبع أقوام من أتباعهم أحد أهل المذهب، وأن القرآن معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء أو صنفها جبريل أو محمد، فضموا إلى ذلك أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه، لما رأوا أن مجرد كونه دليلاً لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام، فإن الموجودات كلها أدلة عليه ولا يجب احترامها فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة إسقاطاً لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته. وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش، أو يركضه برجله إهانة له، إنه كافر مباح الدم. فالبدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الاتباع حتى تصير أذرعًا وأميالاً وفراسخ. وهذا الجواب لا يحتمل بسط هذا الباب، فإنه مبسوط في غيره. وهؤلاء الذين يستثنون في هذه الأشياء الماضية المقطوع بها، مبتدعة ضلال جهال، وأحدهم يحتج على ذلك، فإذا قيل له: هذه شجرة، قال إن شاء الله أن يقلبها حيوانًا فعل. / فيقال له: هي الآن شجرة قطعًا، وإما إذا قلت: قد انتقلت كما أن الإنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم يحيى فبعد نفخ الروح فيه حي قطعًا، وإذا شاء الله أن يميته أماته، فالله إذا كان قادرًا على تحويل الخلق من حال إلي حال لم يمنع ذلك أن يكونوا في كل وقت على الحال التي خلقهم عليها. فالسماء سماء بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والإنسان إنسان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والفرس فرس بمشيئة الله وقدرته وخلقه، وإذا شاء الله أن يغير ما شاء غيره بمشيئته إن شاء وقدرته وخلقه. ولم يجئ في الكتاب والسنة استثناء في الماضي، بل في المستقبل كقوله: /والاستثناء في الإيمان مأثور عن ابن مسعود وغيره من السلف والأئمة لا شكا فيما يجب عليهم الإيمان به، فإن الشك في ذلك كفر. ولكنهم استثنوا في الإيمان خوفًا ألا يكونوا قاموا بواجباته وحقائقه، وقد قال تعالى:
|